الأحد، 23 يناير 2011

الكتابة تحت السطوة الدافئة للفلسفة

 شكل الفيلسوف الفرنسى جاستون باشلار بالنسبة لقرائه أرضا معرفية خصبة، ولم تكتف الأرض، التى مهدتها أعماله المختلفة بالمعرفة الواقعية بل تجاوزتها لتؤسس فى الذاكرة سياقين مختلفين ومتناغمين فى آن، سياق يقوم على الواقع وآخر يوطده الخيال.

الحقيقة عند باشلار ليست حقيقة راسخة، بل قابلة للتعديل والتطوير، بالتالى هى حقيقة تواجه مستقبلها بحداثة فكرها، فليس من قوالب تؤطرها.

والخيال فى فكره الفلسفى بناء معرفة داخلية خصبة، يبدأ مع الإنسان منذ لحظة انطلاق احساسه بالأشياء التى تحيط به، وهى طفولته التى تُسجّل بعين الذاكرة مشاهداته مضافا إليها خيالاته عن تلك المشاهدات، وهى لحظة كامنة لا تنتهى أبدا بتجاوز الطفل لمرحلة طفولته، بل تستيقظ معه تبعا للحظات معينة، بالتالى هى معرفة كامنة، من الممكن استدراجها.
أسس باشلار لما يشبه مدينة أفلاطون الفاضلة، لكن أسس باشلار كانت تعمل على الداخل الانسانى بتناقضاته، أى أن جمهورية باشلار كانت حدودها، كما مسرحها الروح بما تمتلكه من براح، وفى حين طرد أفلاطون من مملكته الشعراء، مكتفيا بشعراء المثل الأخلاقية، الذين يكتبون قصائدهم لتعميم فكرة الخير فى العالم، وضع باشلار الشعراء فى منزلة عليا، معتبرا أن خيالهم يساهم فى المحصلة فى تأسيس العالم.

ومن هذا المنطلق وضع باشلار أحلام اليقظة فى مكانة سامية، وجعلها محور استرجاعات الطفولة، التى أسس أغلب دراسته الفنية الفلسفية عليها.

تأسس باشلار معرفيا على مسائل تعتبر بالنسبة لى غاية فى التعقيد، وقد حاولت بعد أن اطلعت على كتابه «جماليات المكان»، ومن ثم «شاعرية أحلام اليقظة: علم التأملات الشاردة» و«شعلة قنديل» وغيرها، أن أعود لقراءته فى الكتب التى سبق أن ألفها قبل أن ينتقل إلى فلسفته الجمالية والفنية، فقرأت «تكوين العقل العلمى»، و«العقلانية والتطبيقية» وتابعت تنقله ما بين العلم كمادة والخيال والذاكرة كمبادئ فنية فلسفية علمية فى قالب أقرب ما يكون إلى الشعرية، التى توطد العالم بالمعرفة، وانتبهت إلى تحول دراماتيكى عميق فى مساره، بالطبع لم يكن هذا الانتباه خاص بى وحدى، لكنه كان اكتشافا شخصيا لرصيدى فى قراءة واحد ممن اعتبروا الأكثر عصرية بين الفلاسفة.

تحول باشلار جاء بنقلة واحدة، ربما مهد لها، فى سياقه الفلسفى العلمى، لكنها كانت نقلة صادمة حتى بالنسبة لزملائه فى الكلية التى كان يقوم بالتدريس بها.

عندما قرأت «جماليات المكان» فى وقت مبكر من تأسسى الثقافى، انتبهت إلى جماليات أوسع مما أراده الكتاب، فقد شكل لى باشلار بشكل عام محرضا شعريا عميقا، إذ إن قراءاتنا لفلسفته، التى تستعيد ملاعب الطفولة وحقولها كجزء رئيس من العملية الانسانية والشعرية على وجه أكثر تحديدا، ومن ثم اشتغاله على محرضات استعادة الذاكرة لطفولتها، والكتابة تحت السطوة الدافئة لهذه الاسترجاعات، بالاضافة إلى ان باشلار نفسه كان يكتب صياغاته الفلسفية والنفسية العلمية بأسلوب أقرب ما يكون إلى كتابة قصيدة، متعمدا إلى استشهادات تتركز على مناطق القصيدة والشعر، وعمله على تمرين الذاكرة حتى تبقى فى سعى مستمر من أجل تحريض نفسها على لعبة التخيّل من خلال تحويل ما يحيط بها إلى لعبة شعرية بامتياز، مثل كتاباته عن الشعلة أو نور الشمعة وفلسفته، التى ترى أن مجرد وجودنا فى حالة وحدة مع الشعلة أو النار يحفز بنا انتقالة سريعة وهادئة فى آن من لحظتنا الراهنة إلى استرجاعاتنا العميقة لذواتنا، وبالتالى البحث عن الأماكن الأكثر أمانا فى دواخلنا، كما أن حالة الهدوء التى تعترينا أمام البحر بأمواجه، وتلك الحالة أو السؤال الذى يدفعه إلى خيالنا لحظة أمساك أصابعنا بقوقعة ما، والتى هى عند باشلار حالة تقود إلى المكان الأكثر أمانا على الإطلاق، ألا هو مكاننا الأول، أى بيت طفولاتنا.. كل هذه الحالات وغيرها كانت سببا مباشرا عندى لتحريض عميق على الحالة الشعرية والعيش بداخلها، وربما لهذا كان على أن أعيد اقتناء كتب باشلار بشكل دورى تقريبا، فعلى حواف كتبه التى تضمها مكتبتى كتبت أولى هوامش قصائدى التى عادة ما تميل إلى الجانب الإنسانى الأعمق من الأنا التى فى داخلى.

يرقص باشلار على تخوم القصيدة، راسما من فلسفته ممرا عميقا وهادئا وبتعبير أدق؛ فائق الأمان لوحدتنا كأشخاص، تدفعنا فلسفته نحو منطقة الإشراق بالوحدة والتنفس عميقا من خلالها، فهو يؤطر هذه الوحدة بكل مقومات سطوة اللحظة، وليست هذه اللحظة عابرة أبدا، بل هى ترتيب نفسى فائق الدقة للاستغراق فى أبد صغير يستدرج إلى سكونه البحر والماء والنار والأمكنة ومرايا الطفولة وكل استعادة ممكنة حتى تستطيع النفس استدراج حالة أمانها المطلق.

يدفعنا باشلار دفعا قويا، لكنه أيضا فى منتهى الشفافية نحو ايقاظ العالم من غفوته، يجمع كل العالم بين أيدينا لنهزه برقة، ومع ذلك تستطيع تلك الرقة أن تدفع العالم إلى الاستيقاظ، يحرضنا طوال الوقت على رسم حالة ألفة مع الكون، الذى ينطلق من نقطة صغيرة هى المكان، حتى لو كان هذا المكان ينطلق من عش طائر على شجرة، فى المحصلة هو بيت الطائر الأول الذى يرتكن إليه بعد كسره لغلاف بيضته، تماما كما هو مهدنا الأول لحظة خروجنا من الرحم إلى الحياة، اللحظة التى يراها بعض الفلاسفة لحظة تصادم عميق مع الخارج، يرسمها باشلار لحظة تصالح شفافة.

مع قراءاتى المختلفة لكتاباته، والتى دربت نفسى على استعادتها كثيرا، ولربما أستطيع أن أعكس الجملة وأقول إن نفسى دربتنى عليها لأنها ربما تجد فى قراءته متعة عالم آمن وهادئ، ومتعة قصيدة تستدرجنى أو أستدرجها، تعرفت نفسى إلى فلسفة مغايرة، فلسفة قد أقرأها وأنا أمام البحر فى سكون هادئ، تلك الفلسفة التى تنساب بنعومة بالغة لتصبح أفق لحظة أبدية.
http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=374974

الاثنين، 29 نوفمبر 2010

الأسطورة

.....

الفصول الأربعة

يتناثر فيفالدي في فصوله الأربعة حاملا معه أقاصيص سعادات كثيرة، يعزف كما لو أنه يأخذ العالم بين كفيه لينام في دعة وطمأنينة.
فيفالدي يُسارع الخطو ثم يبطئها فيعجل بانسياب الروح معيدا صياغتها.
الموسيقى عند فيفالدي تراكم خبرات روحية طويلة، استيطان في مذاهب شتى، وتحولات تأخذ بالقلب من شغافه فتمرح به في شجنه، وتسكنه وجعها عند فرحه.
"الفصول الأربعة" تحكي حكايات كثيرة، ترسل أنغامها كما لو أنها تروي قصص حضورها وغيابها.
تتمادى فصوله وتذهب في عفوية بكورتها مستعيدة نوما بعيدا في أرجوحة دلال طفولة غضة، تتمايل كثيرا وهي تعبر من حافة وجع إلى حافة أمل، تلملم بشغف حنون سكة الوتر.
مع فيفالدي لا يعود الكمان مجرد صوت موسيقى.. تهتزُّ الأوتار بين أصابع يديه لترسم حالات إنسانية متتالية، كأنما يكتب متوالية الكون فيجمع في قبضة من موسيقى مبادىء الحياة ومدارسها.
كمان فيفالدي يأتي مترعا بشجن دفين يشقّ النفس فيفتح مساربها.. تصير أوتاره حرة وهي تتراقص أمامه خيالات كثيرة.
يرحل صوت الكمان بعيدا كأنما يسافر إلى أراض نائية.. وما ان تلتفت إلى خفوته حتى يعود قويا، يصاعد صوته من تحليقه.

أستمع الى "الفصول الأربعة" كلما آلمني وقت، أسارع إلى تعدد ايقاعاتها فيتعدد نبضي، وأسارع الى فيفالدي في لحظات فرحي أقطف منه رقصة تمزج كف الروح بكف الجسد.
موسيقى فيفالدي ثمرة تُقطف في نضوجها، وفصوله الأربعة كانت محطة أولى أخذتني لأعيش في روائع الكلاسيكيات العالمية،  ولذلك ارتبطت موسيقاه عندي بالبدايات الجميلة التي تترك آثارها العميقة في النفس.
فيفالدي مثل حب أول يعاود الذاكرة في مساماتها الأوسع، يمسح عن الجبين ثقل الوقت، ويبدد برفعة روحية عالية ما تناثر من يوم شقي.
الموسيقى تستطيع أن تحلق بمن يستمع إليها بقلبه.. وفيفالدي يستطيع أن يجبرنا على أن نستمع إليه بالقلب والعين والأذن.

أحلام يقظة


في إغماضة العين إرتجافة تسري في النفس، تنتقل عين الرؤية إلى عين الرؤيا فترى وتتبصر ما لا تبصره في اليقظة.
إرتجافة تسري في مسالك الروح، شاشة عريضة تأتلق بألوانها وتبني في الخيال ألعاب الطفولة وأحلامها.
أحلام اليقظة خدر تحتاجه الروح حتى تسلم من كمائنها، ملاذ للطفولة التي لا تبارح اصحابها، يذهبون في شيخوختهم وهم رهن طفولات تركوها في الملاعب مجبرين لأنهم كبروا في نظر العالم الذي لا يحتمل الطفولة  ولا يستجيب لألعابها.
للحلم طرقه الكثيرة، دروبه التي تتفرع إلى ما لانهاية.. تجتاز الحدود والجغرافيا لتقتلع الخرائط وترسم في غفلة العالم ألوان حضورها.
الحالم يمسك الكون بأصابعه وفي غمضة عين يضع الكون بين الجفن وبؤبؤه، يصير طفلا كبيرا في استرجاع مشاوير ذاكرته، ويـتألق فيما يريد أن ينال من متعة، يغفل الأذى ويسبح في موج رقيق.
وكما الحياة يعترك الحالمون ويختلفون، الحالم الجميل يذهب نحو جمال العالم فيزيده تدفقا وفرحا، فيما يلجأ الحالم القاسي في قسوته إلى ما لا يتخيله بشر.
لسنا سواسية في أحلامنا، فالقاتل لا يحلم مثلما يحلم المقتول، والحاكم لا يحلم مثل المحكوم والأم لا تحلم مثل الأب كما لا يحلم الفقير مثل الغني، يختار كل منا حلمه كما يشاء قلبه، ويذهب في دروب يقظته وعلى كتفيه ما نالته روحه من متعة الحلم، يقطف ويقطف ويجتاز الحدائق والأسوار، لكنه في النهاية سيحلم تماما مثل شخصيته في الحياة، حتى لو اعاد ابتكار شخصه في الحلم سيظل يؤطر شخصيته الجديدة بمفاهيمه هو، فالانسان في أحلام اليقظة يحلم بعقله وخياله معا.
الحلم يفكر تماما مثلما يفكر صاحبه، والحلم يحقق الطموح ويرضي العقل الباطن بما استطاع أن يصل إليه، لكن كل هذا يصير هباء إذ يفتح الحالم عينيه ويطابق بضوئهما ضوء الشمس، حينها سيعود رهن لحظته، سيعود إلى ما كان عليه قبل أن يرحل بعيدا عن الواقع، سيعود لضراوة الحياة وتعسفها، لكنه يعود متخففا لأنه استطاع أن يعايش ما أراد في عالم نسجه في داخله، عالم ملفت لأنه من صنع أصابع الحالم نفسه.

محمود درويش

من ألبسك آخر أثوابك قبل أن تنام نومك الطويل؟ أي لون احتفى بفراشاتك وهي تتطاير؟ أي لون ذلك الذي مزقته الفراشات وهي تنتفض انتفاضتها الأخيرة متكئة على نوم أبدي؟ أكان أزرق بنفسجيا؟ أبيض كحلمك الأخير أم أخضر بلون أشجارك العالية؟
كيف امتدت يد الطبيب ليفتح صدرك، وكم من فراشات تطايرت في غرفة العمليات وهي ترعى نومك المسكون بهاجس اللحظات الأخيرة؟
من ذا الذي مسح الدم عن ثوبك؟ وأين هو ذلك الثوب؟ هل مشطوا شعرك في نعاسك وأنت تواجه قيلولة استحوذت عليك بسحرها فسحبتك وشدتك نحو الأعلى؟ وكيف هي روحك الآن؟ كيف تكون روح الشاعر حين تستسلم للطيران؟
كم قصيدة كتبت في سفرك وأنت بأنة مذعورة تُطلق النداء الأخير؟
أي لون ذاك الذي تركته فراشاتك وهي تخط بأجنحتها قمصانك المعلقة في غرفة العمليات؟ أي أثر ذلك الذي استدعته الألوان لتنتفض؟ وكم من فراشة؟ هل كان كل هذا البهاء بجناح واحد من فراشة مائلة؟ أكان كل هذا الأثر بجنح واحد يتوق إلى أبديته البيضاء؟ هل رأى الطبيب ما رأيت في نومك؟
كانت حورية تجلس وتبكي.. كانت تنتظرك وبين يديها القرآن وقميصك.. قصائدك أيضا بانتظارك هي والكلمات التي تتطاير في بيتك وحول كرسي جلوسك..
هل فكرت بحورية أمك التي قلت أنك تخاف لو مت من دمعها؟ حورية التي تجلس الآن ومعها صورتك الأخيرة وأنت تقبل أصابعها تاركا لها فراشاتك؟
كم من قصيدة لم تكتبتها بعد؟ وكم من حلم استبقك إلى الطيران فما أمسكت به؟ كم من كلمة وبحر؟ وكم من مساء تركته لينام غريبا في بيتك؟
أثر الفراشة يا محمود يلتمع كما لم تتخيل أبدا.. يترك في الفضاء أجنحته المائلة ولا يبارح الضوء.. أثر طالع يباهي بحضور أبدي لا يُمحى..
أثر فراشتك يا محمود يفتح الشبابيك ويخط قوس قزحه في أزرق السماء تاركا الكلمة الأخيرة والبيرق الأخير..
أثر فراشتك يا محمود يحمل علبة الألوان ويمضي بصحبة الأزهار.. يخط اسمك هناك وهنا.. يمسح الدموع في حضرة غيابك.. أنت الذي قلت على قدر خيلي تكون السماء.. إذن افتح السماء واطلق خيولك من هناك.. أنت حيثما حللت ستكون في رعاية الورد.. ليس من ورد أقل.. بل ورد كثير يحيط بنومك.. فلا تخف..
نم أنت سنحرس نحن نومك..

على شرفة البيت ننتظر

 محمود درويش.. الشاعر الأجمل من الشعر.. الأوسع قامة.. الشاعر الذي أقام في جلد قصائدنا وآويناه رغباتنا التي تتوق دائما للقصيدة الأجمل..
هل أصدق أنك رحلت؟
كيف بوسع السماء أن تحتضن موتا عاليا كموتك
كيف بوسع الشجر
كيف بوسع القدر؟
منذ أسبوع واحد كانت ضحكتك على الهاتف من فلسطين التي أحببت.. قلت لك: كيف بوسعي أن أطمئن عليك؟ قلت لي: هاتفي معي اتصلي بي وسأرد... لحظة قالوا أنك رحلت.. اتصلت لم أصدق.. قلت أنك سترد.. لم تف بوعدك لي.. لم تف لآلاف ممن أنتظروا عودتك.. لم تفِ لمئات الآلاف ممن لن يملوا انتظارك ...لم تفِ بوعدك.. كم كنت قاسيا لحظة رحيلك..
محمود درويش.. كنت أنتظرك على شرفة البيت في بيروت مقابل جامعة بيروت العربية.. كان عمري 15 سنة.. وكان صوتك يأتيني من مكبرات الصوت.. كبرت على صوتك في أذنيّ.. وكبرت على قصيدتك التي كانت تكبر بي..
يأخذ الله أنفاس الشعراء بعد أن يكتبوا رسائلهم التي منحها.. يأخذ أنفاسهم ليوسّع السماء التي من دخان وموت.. يأخذها بعد أن يقولوا كل شيء.. لكنك لم تقل بعد الأشياء كلها.. لم تقل بعد.. منحتنا الكثير.. غير أن في ضوء روحك الأكثر ما زال ينتظر وينتظر..
هل أصدق خبر رحيلك.!! هل أصدق أن الموت أحبك فأخذك.. أن السماء غارت من زرقتك فآوتك زرقتها.. أن الموج تعطش إلى ماء كلماتك فاستنجد بك..
هل من كلام يستطيع أن يضاهي لحظة غيابك؟ هل من كلام بوسعه أن يقول أكثر مما قلته برحيلك؟ هل من موت بوسعه أن يضاهيك؟
محمود درويش.. في يوم كهذا ترتعش الأصابع وهي تكتب اسمك..
أنت الذي قلت: "إذا متّ قبلك، فادرأ عني الكلمات المعلبة التي انقضت صلاحيتها منذ وقف خطيب على منبر، واذرأ الأرض التي أنام قربها لعلّ عشبة تدلُّك على أن الموت فلاحة من نوع آخر"
أستعير كلماتك.. روحك لأقول:
"نمْ هادئا،
سوف أحرس حُلمك،
وحدي ووحدك في هذه الساعة
الأرض عالية
كالخواطر عالية
والسماء مجازية كالقصيدة
زرقاء، خضراء، بيضاء،
بيضاء، بيضاء، بيضاء"
نمْ هادئا.. لسوف نحرس حلمك... وسامح الكلمات وصدقنا إذ نقسم أنها ليست معلبة.. وليس بوسعها أن تداني حضور كلماتك فينا..
إذن سامحنا..

الحياة في الموت

يكتب الشعراء عن الموت مثلما يكتبون عن الحياة.. تتفتح كلماتهم في الموت ويغدقون عليه معارفهم الجميلة..
يصبح سهم الموت مضيئا ولامعا، كأنما هو حياة جديدة تزدان بحلي تخففها من آلام الحاضر ومآسيه.
يصدر ياسر الزيات ديوانه الشعري "أحسد الموتى" .. يمسك بأصابع نحيلة على رومانسية الموت، تصبح الجنائز مرتعشة في حضورها الشعري، ويأخذنا معه في عالم يعيش يقظته في قلب موته.

"هناك سأتأمل الموت،
سأصادق قتلى كثيرين لم أرهم في حياتهم،
وربما أحب ميتة جميلة كانت تحب ميتا،
سأموت هناك: من السهل أن يحدث ذلك،
وقد يصعب دفني – إلى الأبد"
الموت عند ياسر حياة متكاملة، هو موت سريري يصحو إلى يقظته المرتعشة في غيبوبتها عن لحظة الحاضر، شبه إغماضة طرية لكنها ليست كسولة، لحظة مندفعة إلى اكتساب مفردات عيش الاكتشاف ومداوة الآلام، هو مكسب لأنه كما يرى الشاعر – يحتفظ الإنسان بآلامه – معه.
الألم يرادف الموت، يشجنه بمفرداته، ويعيد تكرار حكاياته عن الحب والعائلة ودفاتر الذكريات.
وفي الموت تتفتح السبل نحو أحلام جديدة، يصبح الموت حالة من أحلام اليقظة التي تجمّل الواقع على أسس واقعيته نفسها، يتخفف الشاعر من العالم الحي لكنه لا يريد أن يتخفف من آلامه لانه يدرك أن الألم هو الذي يعطي للموت معنى الحياة، هو الذي يمنحه كينونة وجوده على أرض الواقع.
البحث عن ميتة شاعرية، " كنت أمنّي نفسي/ بأنني سأموت ميتة شاعرية: / غارقا – مثلا- في الديون، أو جالسا على شاطىء الدم/ محباً أو متأملاً خيانة" بحث يأخذ بالشاعر نحو الإمساك بلحظة تريد أن تقيم في الذاكرة طويلا، هو بحث يشبه الطريق نحو الاستغراق في رسم معالم القصيدة في الحضور الدنيوي، تسجيل اسم صاحب القصيدة في مدونة لا تمحى، انتقال طري بين عالمين لكنه انتقال مفعم بالحيوية، بحث شاقٌّ عن ميتة هي الأقرب لروح الشعر ومخيلته، لأن الشاعر وهو يعبر سريعا يقول لنا: "مؤلم –حقا- أن تموت/ ميتة وراثية،/ كفراشة تعبر ليلاً".
يرسم ياسر الزيات بفرشاة ملونة صوره في غيبته، دموع زوجته، وحبيبة ابنه التي ستكون هي الأخرى قد ماتت، ويكتب تعاليم ووصايا لحظة رحيله، وبشاعرية شديدة يمسك على صوت الموت، وكميت سعيد في موته يقول: "لعلني أقول أو أرى ما لا أقوله أو أراه" معلنا رغبته في الطيران، تلك الرغبة التي حملت شعراء كثيرين إلى الأجنحة على أشكالها، لكن ياسر الزيات في "أحسد الموتى" يستبدل الأجنحة بطائر كبير، طائر سعيد على شقائه، طائر يفتح جناحيه وسع السماء لينتقل بالشاعر من ضباب الحياة إلى شفافية الموت.
يطلق ياسر الزيات في ديوانه مخيلة القارئ لتذهب هي الأخرى في رحلة غيبوبة عن اللحظة المعاشة، ويستطيع بشاعرية عالية أن يبادل بالحياة الشعر.