الاثنين، 29 نوفمبر 2010

الأسطورة

.....

الفصول الأربعة

يتناثر فيفالدي في فصوله الأربعة حاملا معه أقاصيص سعادات كثيرة، يعزف كما لو أنه يأخذ العالم بين كفيه لينام في دعة وطمأنينة.
فيفالدي يُسارع الخطو ثم يبطئها فيعجل بانسياب الروح معيدا صياغتها.
الموسيقى عند فيفالدي تراكم خبرات روحية طويلة، استيطان في مذاهب شتى، وتحولات تأخذ بالقلب من شغافه فتمرح به في شجنه، وتسكنه وجعها عند فرحه.
"الفصول الأربعة" تحكي حكايات كثيرة، ترسل أنغامها كما لو أنها تروي قصص حضورها وغيابها.
تتمادى فصوله وتذهب في عفوية بكورتها مستعيدة نوما بعيدا في أرجوحة دلال طفولة غضة، تتمايل كثيرا وهي تعبر من حافة وجع إلى حافة أمل، تلملم بشغف حنون سكة الوتر.
مع فيفالدي لا يعود الكمان مجرد صوت موسيقى.. تهتزُّ الأوتار بين أصابع يديه لترسم حالات إنسانية متتالية، كأنما يكتب متوالية الكون فيجمع في قبضة من موسيقى مبادىء الحياة ومدارسها.
كمان فيفالدي يأتي مترعا بشجن دفين يشقّ النفس فيفتح مساربها.. تصير أوتاره حرة وهي تتراقص أمامه خيالات كثيرة.
يرحل صوت الكمان بعيدا كأنما يسافر إلى أراض نائية.. وما ان تلتفت إلى خفوته حتى يعود قويا، يصاعد صوته من تحليقه.

أستمع الى "الفصول الأربعة" كلما آلمني وقت، أسارع إلى تعدد ايقاعاتها فيتعدد نبضي، وأسارع الى فيفالدي في لحظات فرحي أقطف منه رقصة تمزج كف الروح بكف الجسد.
موسيقى فيفالدي ثمرة تُقطف في نضوجها، وفصوله الأربعة كانت محطة أولى أخذتني لأعيش في روائع الكلاسيكيات العالمية،  ولذلك ارتبطت موسيقاه عندي بالبدايات الجميلة التي تترك آثارها العميقة في النفس.
فيفالدي مثل حب أول يعاود الذاكرة في مساماتها الأوسع، يمسح عن الجبين ثقل الوقت، ويبدد برفعة روحية عالية ما تناثر من يوم شقي.
الموسيقى تستطيع أن تحلق بمن يستمع إليها بقلبه.. وفيفالدي يستطيع أن يجبرنا على أن نستمع إليه بالقلب والعين والأذن.

أحلام يقظة


في إغماضة العين إرتجافة تسري في النفس، تنتقل عين الرؤية إلى عين الرؤيا فترى وتتبصر ما لا تبصره في اليقظة.
إرتجافة تسري في مسالك الروح، شاشة عريضة تأتلق بألوانها وتبني في الخيال ألعاب الطفولة وأحلامها.
أحلام اليقظة خدر تحتاجه الروح حتى تسلم من كمائنها، ملاذ للطفولة التي لا تبارح اصحابها، يذهبون في شيخوختهم وهم رهن طفولات تركوها في الملاعب مجبرين لأنهم كبروا في نظر العالم الذي لا يحتمل الطفولة  ولا يستجيب لألعابها.
للحلم طرقه الكثيرة، دروبه التي تتفرع إلى ما لانهاية.. تجتاز الحدود والجغرافيا لتقتلع الخرائط وترسم في غفلة العالم ألوان حضورها.
الحالم يمسك الكون بأصابعه وفي غمضة عين يضع الكون بين الجفن وبؤبؤه، يصير طفلا كبيرا في استرجاع مشاوير ذاكرته، ويـتألق فيما يريد أن ينال من متعة، يغفل الأذى ويسبح في موج رقيق.
وكما الحياة يعترك الحالمون ويختلفون، الحالم الجميل يذهب نحو جمال العالم فيزيده تدفقا وفرحا، فيما يلجأ الحالم القاسي في قسوته إلى ما لا يتخيله بشر.
لسنا سواسية في أحلامنا، فالقاتل لا يحلم مثلما يحلم المقتول، والحاكم لا يحلم مثل المحكوم والأم لا تحلم مثل الأب كما لا يحلم الفقير مثل الغني، يختار كل منا حلمه كما يشاء قلبه، ويذهب في دروب يقظته وعلى كتفيه ما نالته روحه من متعة الحلم، يقطف ويقطف ويجتاز الحدائق والأسوار، لكنه في النهاية سيحلم تماما مثل شخصيته في الحياة، حتى لو اعاد ابتكار شخصه في الحلم سيظل يؤطر شخصيته الجديدة بمفاهيمه هو، فالانسان في أحلام اليقظة يحلم بعقله وخياله معا.
الحلم يفكر تماما مثلما يفكر صاحبه، والحلم يحقق الطموح ويرضي العقل الباطن بما استطاع أن يصل إليه، لكن كل هذا يصير هباء إذ يفتح الحالم عينيه ويطابق بضوئهما ضوء الشمس، حينها سيعود رهن لحظته، سيعود إلى ما كان عليه قبل أن يرحل بعيدا عن الواقع، سيعود لضراوة الحياة وتعسفها، لكنه يعود متخففا لأنه استطاع أن يعايش ما أراد في عالم نسجه في داخله، عالم ملفت لأنه من صنع أصابع الحالم نفسه.

محمود درويش

من ألبسك آخر أثوابك قبل أن تنام نومك الطويل؟ أي لون احتفى بفراشاتك وهي تتطاير؟ أي لون ذلك الذي مزقته الفراشات وهي تنتفض انتفاضتها الأخيرة متكئة على نوم أبدي؟ أكان أزرق بنفسجيا؟ أبيض كحلمك الأخير أم أخضر بلون أشجارك العالية؟
كيف امتدت يد الطبيب ليفتح صدرك، وكم من فراشات تطايرت في غرفة العمليات وهي ترعى نومك المسكون بهاجس اللحظات الأخيرة؟
من ذا الذي مسح الدم عن ثوبك؟ وأين هو ذلك الثوب؟ هل مشطوا شعرك في نعاسك وأنت تواجه قيلولة استحوذت عليك بسحرها فسحبتك وشدتك نحو الأعلى؟ وكيف هي روحك الآن؟ كيف تكون روح الشاعر حين تستسلم للطيران؟
كم قصيدة كتبت في سفرك وأنت بأنة مذعورة تُطلق النداء الأخير؟
أي لون ذاك الذي تركته فراشاتك وهي تخط بأجنحتها قمصانك المعلقة في غرفة العمليات؟ أي أثر ذلك الذي استدعته الألوان لتنتفض؟ وكم من فراشة؟ هل كان كل هذا البهاء بجناح واحد من فراشة مائلة؟ أكان كل هذا الأثر بجنح واحد يتوق إلى أبديته البيضاء؟ هل رأى الطبيب ما رأيت في نومك؟
كانت حورية تجلس وتبكي.. كانت تنتظرك وبين يديها القرآن وقميصك.. قصائدك أيضا بانتظارك هي والكلمات التي تتطاير في بيتك وحول كرسي جلوسك..
هل فكرت بحورية أمك التي قلت أنك تخاف لو مت من دمعها؟ حورية التي تجلس الآن ومعها صورتك الأخيرة وأنت تقبل أصابعها تاركا لها فراشاتك؟
كم من قصيدة لم تكتبتها بعد؟ وكم من حلم استبقك إلى الطيران فما أمسكت به؟ كم من كلمة وبحر؟ وكم من مساء تركته لينام غريبا في بيتك؟
أثر الفراشة يا محمود يلتمع كما لم تتخيل أبدا.. يترك في الفضاء أجنحته المائلة ولا يبارح الضوء.. أثر طالع يباهي بحضور أبدي لا يُمحى..
أثر فراشتك يا محمود يفتح الشبابيك ويخط قوس قزحه في أزرق السماء تاركا الكلمة الأخيرة والبيرق الأخير..
أثر فراشتك يا محمود يحمل علبة الألوان ويمضي بصحبة الأزهار.. يخط اسمك هناك وهنا.. يمسح الدموع في حضرة غيابك.. أنت الذي قلت على قدر خيلي تكون السماء.. إذن افتح السماء واطلق خيولك من هناك.. أنت حيثما حللت ستكون في رعاية الورد.. ليس من ورد أقل.. بل ورد كثير يحيط بنومك.. فلا تخف..
نم أنت سنحرس نحن نومك..

على شرفة البيت ننتظر

 محمود درويش.. الشاعر الأجمل من الشعر.. الأوسع قامة.. الشاعر الذي أقام في جلد قصائدنا وآويناه رغباتنا التي تتوق دائما للقصيدة الأجمل..
هل أصدق أنك رحلت؟
كيف بوسع السماء أن تحتضن موتا عاليا كموتك
كيف بوسع الشجر
كيف بوسع القدر؟
منذ أسبوع واحد كانت ضحكتك على الهاتف من فلسطين التي أحببت.. قلت لك: كيف بوسعي أن أطمئن عليك؟ قلت لي: هاتفي معي اتصلي بي وسأرد... لحظة قالوا أنك رحلت.. اتصلت لم أصدق.. قلت أنك سترد.. لم تف بوعدك لي.. لم تف لآلاف ممن أنتظروا عودتك.. لم تفِ لمئات الآلاف ممن لن يملوا انتظارك ...لم تفِ بوعدك.. كم كنت قاسيا لحظة رحيلك..
محمود درويش.. كنت أنتظرك على شرفة البيت في بيروت مقابل جامعة بيروت العربية.. كان عمري 15 سنة.. وكان صوتك يأتيني من مكبرات الصوت.. كبرت على صوتك في أذنيّ.. وكبرت على قصيدتك التي كانت تكبر بي..
يأخذ الله أنفاس الشعراء بعد أن يكتبوا رسائلهم التي منحها.. يأخذ أنفاسهم ليوسّع السماء التي من دخان وموت.. يأخذها بعد أن يقولوا كل شيء.. لكنك لم تقل بعد الأشياء كلها.. لم تقل بعد.. منحتنا الكثير.. غير أن في ضوء روحك الأكثر ما زال ينتظر وينتظر..
هل أصدق خبر رحيلك.!! هل أصدق أن الموت أحبك فأخذك.. أن السماء غارت من زرقتك فآوتك زرقتها.. أن الموج تعطش إلى ماء كلماتك فاستنجد بك..
هل من كلام يستطيع أن يضاهي لحظة غيابك؟ هل من كلام بوسعه أن يقول أكثر مما قلته برحيلك؟ هل من موت بوسعه أن يضاهيك؟
محمود درويش.. في يوم كهذا ترتعش الأصابع وهي تكتب اسمك..
أنت الذي قلت: "إذا متّ قبلك، فادرأ عني الكلمات المعلبة التي انقضت صلاحيتها منذ وقف خطيب على منبر، واذرأ الأرض التي أنام قربها لعلّ عشبة تدلُّك على أن الموت فلاحة من نوع آخر"
أستعير كلماتك.. روحك لأقول:
"نمْ هادئا،
سوف أحرس حُلمك،
وحدي ووحدك في هذه الساعة
الأرض عالية
كالخواطر عالية
والسماء مجازية كالقصيدة
زرقاء، خضراء، بيضاء،
بيضاء، بيضاء، بيضاء"
نمْ هادئا.. لسوف نحرس حلمك... وسامح الكلمات وصدقنا إذ نقسم أنها ليست معلبة.. وليس بوسعها أن تداني حضور كلماتك فينا..
إذن سامحنا..

الحياة في الموت

يكتب الشعراء عن الموت مثلما يكتبون عن الحياة.. تتفتح كلماتهم في الموت ويغدقون عليه معارفهم الجميلة..
يصبح سهم الموت مضيئا ولامعا، كأنما هو حياة جديدة تزدان بحلي تخففها من آلام الحاضر ومآسيه.
يصدر ياسر الزيات ديوانه الشعري "أحسد الموتى" .. يمسك بأصابع نحيلة على رومانسية الموت، تصبح الجنائز مرتعشة في حضورها الشعري، ويأخذنا معه في عالم يعيش يقظته في قلب موته.

"هناك سأتأمل الموت،
سأصادق قتلى كثيرين لم أرهم في حياتهم،
وربما أحب ميتة جميلة كانت تحب ميتا،
سأموت هناك: من السهل أن يحدث ذلك،
وقد يصعب دفني – إلى الأبد"
الموت عند ياسر حياة متكاملة، هو موت سريري يصحو إلى يقظته المرتعشة في غيبوبتها عن لحظة الحاضر، شبه إغماضة طرية لكنها ليست كسولة، لحظة مندفعة إلى اكتساب مفردات عيش الاكتشاف ومداوة الآلام، هو مكسب لأنه كما يرى الشاعر – يحتفظ الإنسان بآلامه – معه.
الألم يرادف الموت، يشجنه بمفرداته، ويعيد تكرار حكاياته عن الحب والعائلة ودفاتر الذكريات.
وفي الموت تتفتح السبل نحو أحلام جديدة، يصبح الموت حالة من أحلام اليقظة التي تجمّل الواقع على أسس واقعيته نفسها، يتخفف الشاعر من العالم الحي لكنه لا يريد أن يتخفف من آلامه لانه يدرك أن الألم هو الذي يعطي للموت معنى الحياة، هو الذي يمنحه كينونة وجوده على أرض الواقع.
البحث عن ميتة شاعرية، " كنت أمنّي نفسي/ بأنني سأموت ميتة شاعرية: / غارقا – مثلا- في الديون، أو جالسا على شاطىء الدم/ محباً أو متأملاً خيانة" بحث يأخذ بالشاعر نحو الإمساك بلحظة تريد أن تقيم في الذاكرة طويلا، هو بحث يشبه الطريق نحو الاستغراق في رسم معالم القصيدة في الحضور الدنيوي، تسجيل اسم صاحب القصيدة في مدونة لا تمحى، انتقال طري بين عالمين لكنه انتقال مفعم بالحيوية، بحث شاقٌّ عن ميتة هي الأقرب لروح الشعر ومخيلته، لأن الشاعر وهو يعبر سريعا يقول لنا: "مؤلم –حقا- أن تموت/ ميتة وراثية،/ كفراشة تعبر ليلاً".
يرسم ياسر الزيات بفرشاة ملونة صوره في غيبته، دموع زوجته، وحبيبة ابنه التي ستكون هي الأخرى قد ماتت، ويكتب تعاليم ووصايا لحظة رحيله، وبشاعرية شديدة يمسك على صوت الموت، وكميت سعيد في موته يقول: "لعلني أقول أو أرى ما لا أقوله أو أراه" معلنا رغبته في الطيران، تلك الرغبة التي حملت شعراء كثيرين إلى الأجنحة على أشكالها، لكن ياسر الزيات في "أحسد الموتى" يستبدل الأجنحة بطائر كبير، طائر سعيد على شقائه، طائر يفتح جناحيه وسع السماء لينتقل بالشاعر من ضباب الحياة إلى شفافية الموت.
يطلق ياسر الزيات في ديوانه مخيلة القارئ لتذهب هي الأخرى في رحلة غيبوبة عن اللحظة المعاشة، ويستطيع بشاعرية عالية أن يبادل بالحياة الشعر.

عصفورة الشجن

تغني فيروز.. تفتح أبواب الصباح وتدخل.. دائما ظننتها من فروض الصباح.. فرضا جميلا ولذيذا يكاد يشقّ النفس بلهوه الحلو..
تغني وتفتح شباك الشمس بصوتها.. تستعير الجدائل لتمشط شعر طالبة تذهب إلى المدرسة بحقيبة فروضها.
قلتُ فيروز للصباح.. لشاطئه وهو يعانق وسادة النائم فيفتحها رويدا رويدا على النور، يتقلب النائم وهو يسمع صوت البحر في أذنيه.. يسمع رقتها وهي تقول: "أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن"، فيستفيق إلى الشجن يحلق في روحه مثل عصفورة الصباح.. مثلها.. مثل فيروز..
صوتها يؤلم ويبهج.. يهدي المشاعر بتساوٍ مطلق، الشجن والفرح.. الهدأة والضجيج.. الدمعة والضحكة..
تغني فيروز.. فيغني القلب.. تستسلم لها الصباحات صباحا وراء صباح.. تُسلمها الشمس مهمتها.. ويسلمها جارها القمر نوره الضئيل.. يذهب للنوم تاركا رعيته في مهبّ صوتها.. سعيدا ينام لأن الفم الذي سيغنيه يضيء بأكثر مما يضيء هو.
فيروز بصوتها الساحر لا تستأذن الدخول، تقتحم بلا مراودة، لا تقول، بل تستوي على عرشها رافعة الروح إلى أقصاها مشتغلة على الآهة تردد صداها في مدى الدم.
فيروز تغني في وجعها.. تغني في شجنها.. تقول للحظة، وتقول للذكرى.. تنده على العالم "ليالي الشمال الحزينة .. ضلي اذكريني اذكريني" ويتذكرها الحزن تماما مثلما يتذكرها الفرح. قلت أنها متساوية تُجيد لعبة العدل ويطمئن لها القلب فيهديها توقه إلى صوتها تستبيحه كما تشاء وتفرض عليه طاعتها..
فيروز الصباح.. جارة القمر.. وسفيرة الروح إلى أسسها..
لا أعرف لماذا عندما يردد عبد الحليم "فيروز الشطآن" أتذكر فيروز فقط تصير هي الشاطئ وهي البحر في مدّه وجزره.. في هروبه وفي إقباله.. يصير لونها مثله.. أيقونة ترفع الحسد عن الجسد وتراوغه بلونها الأشد عذوبة من الزبد وهو يسفر عن البحر.
تُطلق صوتها في المدى الذي تغني له فيسمعها، أنده أنا على المدى فلا يسمعني.. أستعير صوتها فيُقبل مجتمعا.
هل هو صوتها فقط، أم هي عذوبة الروح التي تقرأ الكلمات وتتهجأها حرفا وراء حرف حتى تشتدّ وتوغل في شدوها.
فيروز تغني "يا سنين اللي رح ترجعيلي .. ارجعيلي شي مرة ارجعيلي..ورديلي ضحكات اللي راحوا.. اللي بعدا بزاويا الساحات".. تضحك الساحات القديمة إذ تردد فيروز طرقاتها.. ورويدا تعود بالسنين إلى طفولتها الأولى وعذوبتها التي لا تُنسى.
فيروز تغني.. إفتحوا الأبواب..

إينشتاين والنسبية


قرأت مقولة لإينشتاين يرى فيها أن "الخيال أهم من المعرفة".
توقفت عند مقولته هذه وأنا أعقد مقارنة في رأسي بين الخيال والمعرفة، وتساءلت أليس الخيال معرفة ايضا؟ ألا يمنح الخيال صاحبه طوفانا في مدن ربما لا يستطيع ان يختبرها في المعاش؟
الخيال معرفة تستطيع ان تلمّ، والخيال يغني صاحبه ويمنحه معارف جديدة، لكن ألا يختبر كل منا في خياله معرفته أيضا؟
المعرفة أيضا تبني المخيلة وتأخذها إلى مناطق جديدة لتختبرها، وبالمعرفة تزداد المخيلة خصبا وتنمو مترعة بعلومها.
نحن نجتاز الأماكن لا بمخيلاتنا فقط بل بمعارفنا ايضا.. نجوزها ونحن نستلهم معرفتنا لتأخذنا إلى ضفاف جديدة وأراض ربما لم يطأها انسان.. نصنع علما يفوق العلم، ونختبر معرفة جديدة لكننا ابدا لن نستطيع ان نبني هذه المخيلة إلا على المعرفة مهما تضاءلت.
لكن إينشتاين الذي يقول ايضا: "إذا لم يوافق الواقع النظرية.. غيّر الواقع" يستفز نظريته ويعلن جنوحه الخالص نحو الخيال ويؤهله ليكون في موقع أعلى من المعرفة.
العلماء أيضا يدركون أيضا أن من صنع نجاحاتهم كان الخيال، ويعرفون تماما أن كل ما أنجز على أيديهم كان سبقا في مخيلاتهم، وأن المخيلة تستطيع ان تبدع ولكنها كما كل شيئ في الوجود تستدل على ذاتها بالمعرفة وعلومها.
العالِم يزرع مخيلته باكتشافاته، والكاتب يصنعها بكلماته والرسام بألوانه والسينمائي بأبطاله وهم يتحركون على الشاشة أمامه.
لكل منا وسيلته في بناء خياله.. وكلما ازدادت المعرفة ازدادت خصوبة الخيال وراح يبدع في اكتشافات جديدة.
مجددا استعيد اينشتاين الذي يقول أن "أجمل احساس هو الغموض.. أنه مصدر الفن والعلوم"، اينشتاين الذي يعيش في نسبيته يعلن مرارا أن الغموض هو المفتاح وأن لا فن من غير مفتاح، وان العلم باب مفتاحه في يد الغموض.. ألا يجوب الخيال مناطق الغموض.. إذن يمتلك الخيال مفتاح الغموض.. يمتلك أسراره ولهذا يفتح بإلهام أبواب الفن والعلم..
إينشتاين أيضا يقول: "ضع يدك على صفيح ساخن لمدة دقيقة وستشعر أنها ساعة.. أجلس مع محبوبتك لمدة ساعة وستشعر أنها دقيقة.... هذه هي النسبية"..
هل لاحظتم كيف تكون الأوقات الحزينة طويلة.. فيما تمرّ الأوقات السعيدة كالدقيقة...؟! يقول إينشتاين هذه هي النسبية.

عن الأبيض


قلت له: هل تعرف أن الأشباح تحب الرقص في القمصان البيضاء؟
قال: البياض مرعب.البياض مفتوح على آخره. البياض لا نهائي كأنه نهاية طويلة.
كأنه أبد أبيض.
قلت له: الأبيض أبيض حتى تمام بياضه. ليس من كسر فيه: فاضح في عريه، أبد- نعم، لكنه أبد ينطوي على حجة كبيرة للبقاء. وبالرغم من هذا فهو أبد ساطع في قوة تدنيسه، بضحكة خفيفة وكوب من شاي، بملعقة قهوة مضيئة، بكاتشاب، وبدبوس صغير ينغرس في أصبع اليد فيدميها. الأبيض الذي يفضح المعنى في عنفوانه، ويتألق عاليا مثل راية غالب، لكنه أيضا يعلن استسلامه.
فقال:مرة ذهب الأبيض إلى الحقل، فرأى أباه الأسود جالسا يبكي، وساله: لم تبكي يا أبي؟ فقال الأسود: أبكي أمك الخضراء.
واستزدته فزادني، وقال: نظر الأبيض في المرآة، فلم ير شيئا، ونظر في النهر، فلم ير شيئا، ونظر في الأرض فلم ير له ظلا. وفي المساء وحده، رأى كل شيئ.
وقلت له: مرة سألت الأبيض: لم تجتاحني؟ لم تعتركني وتقتلني؟ لم تأكل كل خبث في، بالرغم من أنني أحيطني بالأسود؟ لم تدميني، حينما البشر كلهم حدائق من ألوان، وحينما الضحكة في أفواههم سيوف وخناجر؟ مرة، التفت الأبيض إلى قلبي، فأرجفني.
وقال: .. وإذ يلتفت الأبيض إلى القلب، يولد خوف ومحبة، وتولد أحلام خائفة وسعيدة.
وقلت له: الأبيض إذن خائف يتلفت في عريّه ويميل عند كل هواء، يمحو بخطى واثقة ما سوّدته الأفكار.
وقلت له: يبرهن على غيابه بقوة حضوره، ويصطاد من حديقة الياسمين. يضحك غير عابئ بمواكب الألوان. يتلفت خشية أن يداعبه الأسود. يتأرجح خفيفا، ويتطهر من نفسه في نفسه.
وقال: أفكاره أخطاؤه، أخطاؤه مجده الحقيقي، مجده الوحيد الباقي. ولا يملك أن يكون أكثر بياضا، لكي يجدد ذاته، لكي يفنى في جنون بياضه.
وقال: لكل أبيض رائحة، ولكل لون رائحة سوى الأبيض: ضائع هكذا في روائح ضائعة.
وقلت له: إذن يبقى في مهب الريح، يعيش ضياعه ويفتتن به، مثل زهرة ياسمين تفني نفسها في نفسها.
فقال: الياسمين يكاد يجن.
وقلت: اصقل البياض بألوان البهجة، مرر أصابعك على جبينه، وخله يصرخ ألوانه، خله يقول.
فقال: الياسمين يخاف ملمسه، والأبيض أوسع من أحلامه بالبياض.
وقال: أبيض فرح. أبيض يكاد يطير.

عن الألم


تنتابني نوبات من الصداع النصفي التي تؤجل كل شيء في حياتي، فجأة تبدأ هجومها فتقسمني إلى إثنتين واحدة يفتك بها ألم يشتدّ وأخرى تحاول أن تؤاسي شقيقتها فتفشل..
ألم يحفر في الجبين كأنما يمسك بإزميل حاد، يذهب إلى حافة العين فيوترها ويرخي بظلال قسوته عليها فلا تعود ترى إلا عتمة مشوبة بالرمادي الغائم.
في نوبات الصداع النصفي أصبح مثل عود قصب مائل يتمايل أمام كل نسمة من هبوب خفيف، وتيرة واحدة تمتد من العين اليسرى لتضني الجانب الأيسر من الرأس وتلتف الى الرقبة..
ألم لا يعرف إلا أن يصبح متوازيا في خطوته، يميل ليعتدل، يتسارع ليقلق ويعود إلى بطئ خفيف ينذر بنوبة عاجلة.
الشقيقة تؤلم شقيقتها الأخرى، تلك التي على اليمين، لا تعرف كيف تمد لها يدها ولكنها تشفق عليها، تمسح على جبينها الذي يغور بحفرة تزرع أخدودها في مكان الألم.
يوم وراء يوم يجتاح الصداع النصفي حافة الرأس.. يقاوم النوم باستبسال ويزرع شحوبه في الوجه والعينين.. تفشل معه الأقراص المسكنة، يقاومها تماما مثلما يقاوم إغماضة العين ..
هذا الألم له يد تشدّ، تأخذ النصف الذي أحبَّ إلى حافته، تناديه بصوت هامس فتشعل فيه أرقه،  تؤجج هدأته بسخونة تلفه.
الاستسلام للألم يصبح سيدا، يجول في ثنايا الرأس، يحاول أن يكمم مقاومته، يشعل فجواته في الذاكرة فلا تعود تتذكر شيئا.
ألم يقسمنا إلى إثنين، يباغت الجسد في وحدته فيقصمه يعجل بتفتيته، ألم غريب ينمّل الأطراف.. يخدرها ويعاودها في ضجيجه الذي بلا صوت..
الألم الذي لا يوزع مساره بعدل.. يترك نصفا ليرتاح ويشعل النصف الآخر، لا يبدل جغرافية غزواته، يظلّ عند الجانب الأضعف ينتابه ويوسّع مساره.. لا يقترب أبدا من النصف الآخر... يظلّ ينظره ...
النصف الآخر يبتعد.. يريد أن ينام..
نصفان
ولا اكتمال لموسيقى بنصف سلمها
نصفان ضاحك وباك..
أنتصف.. وأتوزع عليّ..
وإذ أكتب.. أغفو فوق أوراقي.. ولا أدرك أبدا ما كتبته أصابعي..

عين ثالثة

في المرآة وعند الصور الفوتوغرافية، في أعين الغير، وفي الذاكرة، عينان تتشبثان بالرؤية وتندهان على الصور، يتفتح الصباح بتفتحهما وينام الليل عند نومهما..
عينان لنرى ونقرأ، لنتعرف على الحرف في انصهاره بالكلمات، عينان ننظر من خلالهما العالم ونكتشف الآخر، وإذ تغيم الرؤية أو تغيب نقفل الذاكرة عن العالم ولا يتبقى لنا سوى لمس يشير وحواس أخرى تتفتح لتدلّ.
عينان في كل منهما بؤرة ضوء تجذب العالم وتأخذ منه نوره لتعيده إليها..
هل فكر أحدنا في يوم بعين ثالثة، عين أقرب إلى الصفاء والنور، عين ترى كما ليس بإستطاعة عينان يراهما العالم كله؟
هل فكر أحدنا بنور ساطع وقوي يمكن أن يَمسّ ويُمسّ؟ بنور يجاور الرؤية والرؤيا فيتفتح الكون إلى أسراب من حمائم وآفاق لا تنتهي بل تتكرر وتتكرر وهي تفتح صفحة وراء صفحة أسطورة الحياة وتاريخ الكون؟
هل فكر أحدنا بروحه وهي تضطرب إذ تعانق الجمال في قمة جباله؟ بروحه وهي تقرأ الكلمات وتتهجأها من دون شمس سوى شمس الذات؟
هل لامس أحدنا عينا ثالثة في وجهه فارتعدت أطرافه وهو يفكر كيف أقفلها لسنوات وظل في عمائه لا يرى؟
العين الثالثة هي عين الروح الأصدق في كشف الرؤية، الأكثر ملامسة للخدر.
العين الثالثة تفتح المسارب، تجوز النوافذ، لا تلتفت إلى الأبواب، تعبرها وتعبرها في رحيل سريع يبتغي الإنفلات إلى طبقات أوسع من السماء، وإلى معان أسمى في الوجود.
جلست إلى نفسي.. كنت أتنفس ببطء شديد وأنا مغمضة العينين أحاول أن أرى كما أخبرني رجل قال أنني لم أعرف الدنيا بعد، وأن ما رأيته ليس إلا بعض الرؤى.. كنت أحاول وأحاول وأنا أركز تفكيري في جبهتي حيث يلتقي الحاجبان، مرت دقائق ودقائق من دون أن أرى، كان الوقت يمضي ببطء شديد كأنه لا يلتفت إلى مروره ولا يدركه، فشلت لمرات ولكن إصراري على معرفة ما اختبره الرجل  جعلني أعيد التجربة، كنت في كل مرة أدخل في صفاء أوسع، وتنفتح لي الأبواب أكثر..
قال لي: كوني نقية.. واختبرت النقاء، خلصت نفسي من مشاعر مؤذية واتجهت إلى داخلي..
رأيت.. كان نورا ساطعا يحدق بي ويفتح لي الآفاق، فأعيش خيالا رفيعا وعاليا في بهجته، كنت أجوز كل شيء وأعبر كل ما تمنيت، فجأة رأيت زهرة شممت رائحتها لا مستها بقوة القلب.. فجأة اكتشفت أن عينا ثالثة وساحرة تعيش بي.. وأن بوسع هذه العين أن ترى أجمل ما في الوجود.
العين الثالثة : قلت: كم كنتُ عمياء..

ميادة

أتت ذات يوم بعيد من بلدتها التي تنام على البحر، كانت تعرف الأسماك وأنواعها وتحلم ببحر تذوب فيه..
كانت تختبر الشتاء الأقرب إلى قلبها وتغادر الصيف تخاف شمسه فتختبئ.. تملح قدميها برمال الشاطئ وهي تواري ركبتها..
أتت ميادة إلى العاصمة.. كل ما تحمله ذكاء متقد ليس بوسعه أن يؤسس لمدينة أحلامها.. فالذكاء في المدن يقتل أصحابه، والذكاء في المجتمعات يقفل الطرق ويخيف..
ميادة فتاة عادية لها سمات البحر وسمرته، وعندما تنام في المساء تحلم بحب يعبر نومها ويمسح جبينها بعد نهار مضن.. تنام وتحلم بالبحر.. تنام وتحلم بالياسمين.. تنام وتحلم بقلب يتقد ذكاء مثلها تماما..
تشاهد ميادة الأفلام الرومانسية وتبكي.. تخاف على أحلامها وهي ترى الى بطلة الفيلم وهي تقتل أو يداس قلبها..
تنام ميادة ويدور شريط السينما مجددا في رأسها.. تبدله مرارا.. لتصحو على عجل إلى أعمال النهار..
تفتح الكتب وتقرأ.. تسأل عن أشياء لم تفهمها.. وتسعى من دون أن تعرف تعبا.. تسعى طويلا لتفهم..
عرفت ميادة منذ ثلاث سنوات..
أتت من بعيد تبحث لعائلتها عن أرض أوسع، مهمومة بطفل أختها الصغير، ومهمومة بأمها تنده عليها في نومها.. مهمومة بعسل الحقول، وبحبات الفول في أول طلعتها..
في ثلاث سنوات تبدلت ميادة كثيرا.. لم تتبدل روحها القلقة، ولم تغادرها أحلامها بل ظلت معها تكبر وتكبر..
صارت ميادة أكثر نضجا وهي تمدّ بأصابعها إلى الكتب..
لم تعد تبحث في عنوان الكتاب عن الحب.. صارت تعرف أن الحب أبعد من كلمة وأن المسافة بين الكلمة والحلم كبيرة..
اجتازت الأحرف العربية.. صارت تتحدث بكلمات انجليزية بسيطة.. تعلمت كيف ترعى بأصابعها في حقول لوحة مفاتيح الكومبيوتر..
بسرعة تعرفت إلى عالم آخر..
بسرعة صارت تصنع من الكلمات بحرا جديدا تغوص بقدميها فيه..
بسرعة صارت تبحث عن الفكر بأصابعها وهي تجوز المحركات التي تجد فيها كل شيء.. بسرعة صارت تكتب وتجرح بكلماتها..
ثلاث سنوات .. وميادة تستعجل الرحيل..
ثلاث سنوات وميادة تكتشف العالم بغبطة طفل..
تمر الأيام وميادة في غرفة مجاورة لي ترعى الأحرف.. وتنتظر بالكلمات بحرها الجديد.. لكنها إذ أمسكت بالبحر بعد كل تلك السنوات.. بدأت تحن الى بحرها الأول تزرع قدميها بملحه وهي تسير حافية فتجرحها صخوره..

عين طفل كبيرة

كنت أقرأ رسائل  راينر ماريا ريلكه إلى شاعر ناشئ وتوقفت عنده طويلا إذ يقول: " إذا ما تبيّن لك أن يومك فقير لا تتهمه. اتهم نفسك بأنك لست بعد شاعرا لتستدعي إليك ثراء اليومي. لا شيء فقير أمام المبدع، كما ليس ثمة أماكن فقيرة، لا دلالة لها. فحتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالم، أفلا تبقى لك دائما طفولتك، هذه الثمينة، هذا الغنى الملكي؟".
جملة ريلكه تداعت عندي بسؤال الطفولة.. تذكرت الناقد محمد لطفي اليوسفي الذي كتب ذات يوم يعقد مقارنة بين طفولة الديكتاتور وطفولة الشاعر، كيف يخفي الديكتاتور طفولته وكأنه ولد من العدم، وكيف يتغنى الشاعر بطفولته ويرويها؟ كيف يختبئ الديكتاتور وراء صرامته، كأنه لم يكن في حياته طفلا؟ وكيف يحيا الشاعر بواسطة طفولته فيستعيدها مرارا كأنما حياته تتخلّق لحظة وراء لحظة عبر هذه الطفولة؟
كان اليوسفي يعقد مقارنة بين طفولة بينوشيه وطفولة نيرودا.. كان يكتب وهو يرى إلى مشهد ممتلىء بالدم في تاريخ يُكتب وهو يدوس أحلام الطفل ليربّع أحلام الديكتاتور..
غاستون باشلار في "شاعرية أحلام اليقظة" يخاطب الطفل فينا، يحسّه على النهوض يدعونا لنرى بعينه "الطفل يرى بعين كبيرة، بعين جميلة، والتأملات نحو الطفولة تعيدنا إلى جمال الصورة الأولى".
الإحساس بالطفولة يمنح الكائن الإنساني بعض حماية يحتاجها، سيتركه في لحظات أمان مع مخيّلته ولحظات تخلٍ أيضا عن المسؤوليات التي تلاحقه في الخارج طوال الوقت وتثقل مناكبه.
كي نحلم نحتاج إلى طفولة كبيرة، نحتاج إلى عالم من الطفولة نستعيد وقائعه رويدا رويدا، فالأطفال يطرحون أسئلتهم الكبرى ببراءة تامة، فيما نطرح نحن الكبار أسئلتنا خلف ستائر من الرهبة والخوف، لذلك نبقى بعد أن نغادر طفولاتنا بلا إجابات وتظل أسئلتنا في داخلنا تتفجر أذ نحلم وتسائلنا عن مصائرها.
يقول باشلار: "عندما نحلم بالطفولة، نعود إلى مرقد تأملاتنا، إلى التأملات التي شرعت لنا أبواب العالم. إن التأملات هي التي جعلتنا الساكن الأول في عالم الوحدة.  إننا نسكن العالم بسعادة لأننا نسكنه كما الطفل المتوحد يسكن الصور.".
نعود إلى طفولاتنا نسوق قطارات باتجاه الأخضر، نصنع الدمى الجميلة ونحركها كما نشاء، لكننا عندما نكبر نخاف على صورتنا أمام العالم الكبير من تلك الدمى فننتزعها من غرفنا، نواريها، ونصنع بدلا منها شخوصا في ذاكراتنا تعوضنا عن الدمى الصغيرة التي تحدثنا معها وروينا لها أسرارنا وآلامنا.
ألا نمضي في حيواتنا ونحن نبحث عن طفولاتنا؟

اسئلة معلقة كالذبائح

منذ أكثر من عشر سنوات أمسكت بين يدي ديوان «صمت قطنة مبتلة».. للشاعرة فاطمة قنديل، لم يكن اسمها جديدا علي، كان شيء ما يربطني بتجربتها، حبل سري يعقد لغة بيني وبين ما كتبته وكنت بشغف أتابعها من منطلق أنثوي أولاً، لكن هذا المنطلق سقط بعد «صمت قطنة مبتلة» لتصبح فاطمة قنديل طريدتي شعرياًً لشاعرية عميقة يتداولها نصها.تغيب طويلا، لا تصمت لكنها تغيب في كل مرة لتتفجر مجدداً، كأنما غيابها يصبح معادلا لوجودها الحياتي، كأن بها تغيباًًًً لتصبح أكثر حضورا ولتلين كلماتها أو ربما لتتصلب أحرفها وهي تشد بتجربتها نحو آفاق جديدة تخترقها. وبرغم مرور سنوات طويلة بين صدور «صمت قطنة مبتلة» وصدور «أسئلة معلقة كالذبائح» إلا أن قطنة فاطمة لم تزل ندية ولم تجف أبدا..
على الغلاف الأخير من مجموعتها تعلن قنديل بوضوح تام علاقتها مع الأشياء، لا تتوارى خلف أقنعة اللغة، ولا تستبد بها، تجلس في وسطها تماما، وهي تعرف ما يمكن أن تمنحه اللغة لها، تصبح الكراسي والمشاجب والمتعلقات الكثيرة كائنات حية تعتاش من أصابع الشاعرة، تماما مثل الشخوص التي تعبر نصوصها أو تقيم فيها.لقنديل قدرة فائقة على أنسنة كل ما يمر تحت مجال نظرها، فالكرسي الذي لم تجلس عليه طويلا كي يدفأ، وانفراجة الباب التي لا تعني مطلقا أن الباب مندهش، وخشونة الجوال وأشياء كثيرة أخرى كلها تصبح في حالة حركة حيوية في قصيدة الشاعرة، ولأنني لا أستطيع أن أفصل بين تجربتي في قراءتها وتجربتي في معرفة الشخص، التفت إلى فاطمة وهي تداعب مقود سيارتها بحنان وتقول له "آسفة أتعبتك اليوم".
وفاطمة التي تؤنسن الأشياء الجامدة، تؤنسن أيضا الروائح وتجعل لها حياة مستمرة، ويمتد فعل الأنسنة عند الشاعرة ليحيط أيضا بالحيوات لأنها تعطيها مزيدا من الدفق الروحي وتمنحها دفئا خاصا حتى لنخال أن من رحلوا لم يرحلوا فعلا، لأنها تؤنسن حتى فعل غيابهم فتدخلهم غرفها الكثيرة وتضيء بأرواحهم كلماتها: «جسد وحيد هناك، جلس ذات ليلة يتحسس جدرانه وربما كاد يبكي لكنه استخف بالبكاء، تحرك عاريا أمام مرآة بطول الجدار، خدشها، لكنه لم يبصر خلفها أي شيء، ربما لهذا لم يفهم سر وحدته، ربما فهم لكنه أراد أن يختبئ تحت منضدة الطعام العريضة يسمعهم وهم ينادون عليه». وربما نجوز من هذه الإشارة إلى فهم علاقة الشاعرة بالوحدة تلك التي تؤطر حياتها، وحينما نسألها عن وحدتها ترد: لست وحيدة وبين أصابعي كل شيء، إذ إن حيوات متعددة تعايش الشاعرة في مجتمعها، ألم تقل إميلي ديكنسون ذات يوم: «الروح تختار مجتمعها ثم تغلق الباب".
 

الأحد، 28 نوفمبر 2010

فسحة أشغلها


قال جبران: "وعظتني نفسي فعلمتني ألا أحدّ المكان بقولي: هنا وهناك وهنالك.. وقبل أن تعظني نفسي كنتُ إذا ما صرتُ في موضع من الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقط علمتُ أن مكاناً أحلّ فيه هو كل مكان.. وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات".
دائما أقول أنني كائن لا علاقة له بالجغرافيا، كائن يحنّ دائما في زحام الكون كله إلى غرفة صغيرة تحتضن أحلامه وتؤججها.
تتغيّر المدن مرارا، تجتاز محن شوارعها وتعيد تصنيف ذاكراتها، لكن الغرفة الصغيرة المشبعة بالأنفاس تبقى كما هي نقطة في كون عظيم لكنها تشكل فضاء وكونا لامعا بآلاف المسافات.
الغرفة الصغيرة التي تخلق مراياها حتى وان لم تكن موجودة على جدرانها أصلا، تعيد ترتيب الروح في حيزها وتطلقها في فضائها، الغرفة التي بلا شرفة أو بشرفة التي ربما بلا نوافذ لكنها تنفتح على سماء الكون في رعشة طائر، الغرفة التي تبني وفق مشيئتها أبراجا تناطح السماء وتغتسل بمطره، هي الغرفة نفسها التي يكللها سقف وبالرغم من هذا تشرع نفسها إلى الهواء بلا مظلات، وتجوب الأفق من دون أن تلامس جدرانه.
الغرفة.. الفسحة التي أشغلها وتعيد الإشتغال بي، تطمئن الى حركتي في أرجائها وأطمئن إلى ما تتركه في روحي من دهاليز ومرايا لأجوبها، تصبح في دفقة واحدة خريطة كونية تؤجج العالم كله وتتسع.
هي المكان الذي يتسع بجمالياته، وبأرواح من فيه، تستطيع أن تحتوي العالم مثلما تبيح له أن يحتويها، تعيد إبتكار الحكايا وقراءة القصائد، تلتمع الشمس في أفقها ويسدل القمر أسراره.
هي المكان الذي يحتفي بنفسه ويؤسس حضوره ويلتقط الحواس ليلامسها ويعطيها، هي الغرفة نفسها التي شغلها جبران بأصابعه، وشغلتها أرواح كثيرة، أرواح تملي أسرارها وتمنحها لخفقة حانية من جدار يطمئن إليها.
يمكن لحيّز صغير يشغله حالم كبير أن يصبح كونا مشرعا لأحلام العالم كله، وبوسعه أن يصبح جغرافيا كاملة تسطع بمعارفها الخاصة، تلك المعارف التي ترتقي لا المعارف التي تريد أن تهيّمن وتقتل.
يبدأ الكون من نقطة متناهية الصغر، كما تبدأ الحياة من نطفة.

شرفة الماضي


يرتبط المكان دائما لدينا بشيء ما يثير ذكرياته عندنا, فنحن نتذكر دائما عبر حافز يدعونا الى التذكر, وشرفة الماضي تبدو أكثر بهاء عندما نطلّ عليها عبر شرفة الحاضر, حينها تصبح الأطلال أشياء جميلة تتحرك أمامنا, وتبدأ مخيلاتنا برسم خطوط جديدة وأحداث لم تحصل, فنكتسب خبرات جديدة تماما, فنحن وعبر الخيال نستطيع أن نحصل على خبرات معيشية إضافية غير تلك الخبرات التي نحصل عليها في الحياة اليومية, فالخبرة الخيالية خبرة إضافية تضاف الى معرفتنا بالحياة.
لهذا تبدو الروايات واقعا فعليا من حيث هي خيال, فالرواية تمنحنا فرصة اختبار حياة جديدة لبشر آخرين, وتمنحنا فرصة اكتشاف أماكن لم تطأها أقدامنا. فالروائي لا بد أن يرسم عبر روايته صورة للمكان التي تدور عليها أحداث شخوصه, ومن خلال هذا الرسم نطل نحن المتلقين على أمكنة جديدة وعوالم جديدة, نختبرها عبر الخيال, فتصبح جزءا من ذاكراتنا.
في السينما أيضا تصبح الأمكنة مألوفة جدا, وقد أرتبطت في أذهان المشاهدين العرب صورا عديدة من أحياء مدن مصر عبر الصورة التي نقلتها لنا الكاميرا, وعلى صعيد شخصي, أذكر أنني عندما زرت القاهرة لأول مرة, لم أشعر بأنني أزور مدينة جديدة, فالشوارع مألوفة, وصراخ الباعة والإزدحام في كل مكان, وصور المحلات والمقاهي كلها صور مطبوعة في الذاكرة لكنها, فجأة, أصبحت أمامي مادة حيّة.
الشيء نفسه حدث معي عندما ذهبت الى مدينة الاسكندرية كنت أتأمل الشوراع والبحر والكورنيش وكل تلك الصور التي رسمها كتاب من الاسكندرية مثل ابراهيم عبد المجيد وادوار الخراط, أو حتى كتاب وشعراء عاشوا في الاسكندرية مثل اليوناني كافافيس.
وقد استهل الروائي الاسكندراني ابراهيم عبد المجيد احدى فصول روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" بمقتطف من الحلاج يقول فيه: " قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لايراه الناظرونا" ومن هذا المستهل كان الروائي يريد أن يرسم  للمدينة التي أحب الصور التي لا يمكن أن يراها العابر,  فالعين التي تعشق ترى ما لا يراه الناظر الحيادي.
هكذا نسوّر صور طفولاتنا بأبهى الألوان ونزينها, ولما نعيد رسمها تصير أكثر جمالا وتألقا.

صور فوتوغرافية


يقول ياسر عبداللطيف في روايته "قانون الورثة": "أن تنظر إلى نفسك في المرآة مباشرة فأنت لا تراها، بل ترى عاطفتك نحوها التي تسبغ على الصورة المرسومة أمامك جمالا في كل الأحوال. أما أن تنظر إلى نفسك في المرآة عبر مرآة أخرى، فأنت تراها بمعزل عنها (...) تراها كموضوع خارجك. لكن إياك والاندياح وراء التكرار اللانهائي للصورة في الانعكاسات المتعاقبة، ذلك قد يمنحك وهما بالخلود".
في المرايا  تتسع الذاكرة، ويصير التاريخ معكوسا على المرآة خارج إطار العقل، تتكثف الطفولة ويتكثف الماضي.
الكتابة أيضا نوع من الخوض في المرايا وانعكاساتها إذ يعود الكاتب لحظة كتابته إلى ما حوله؛ ينظر الأشياء المتناثرة, يتخيّل اليد التي لامست الجدار الذي يستند عليه, ويتساءل عن الكرسي الذي يجلس عليه: من يا ترى صنعه؟ وأي يد اشتغلت على زخرفته؟ من هو الذي دق ذلك المسمار؟ ومن هو الذي زينه بتلك الوردة القانية؟ وأي إنسان هو ذاك الذي جلس عليه في البدء؟
بهذه الطريقة يرسم الكاتب كل ما يريده محاولا استجلاب الصور واستجوابها ومساءلتها, وكلما أغمض عينيه تراءت له أشباح الماضي حاضرة ببهاء كبير, يتدافع التاريخ ليصبح نصب عينيه في صور متلاحقة تأتي من أزمنة وأمكنة مختلفة لكنها تبعث موسيقاها الهادئة من حولها مثيرة حالة من استكانة إلى ماضٍ طفولي جميل.
كما أننا نفتح صور البوماتنا الفوتوغرافية القديمة, نقلب الصور التي بالأبيض والأسود, نحاول أن نتذكر الأمكنة ان نستعيدها من الماضي لنجلبها الى الحاضر ونعايشها مرة جديدة, فنحنّ  الى ماضينا مهما أثقل حيواتنا, لأننا سنراه مخففا من الألوان, سيصبح ضحكة كبيرة, لن تؤلمنا لأنها ببساطة أنستنا بكاء طفولاتنا.
يقول كافافيس في قصيدته "تحت المنازل":
"... وأمس, حين مررت بالشارع القديم/ الذي جعله سحر الحب, فجأة, جميلا.../ حين مررت بالدكاكين, والأرصفة, والأحجار/ والجدران والشرفات والنوافذ.../ لم يتخلف ثمة أي قبح./ عندما كنت واقفاً أنظر الى الباب/ واقفا, ومتمهلا تحت المنزل/ أخذ كياني كله يستعيد العاطفة التي أختزنها."
ففي الأمكنة نستعيد ذكرياتنا عبر العاطفة, نقف متمهلين أمام أطلال طفولاتنا, نحاول أن نلامس الجدران القديمة نفسها, نستعيد كل نأمة, ونستعيد كل خطوة, نصبح خفيفين وطائرين بلا أجنحة, حينها سنجد أنفسنا, في لحظاتها الحقيقية النقية, أي قبل أن تغترب عنا, فالانسان منا يكتشف نفسه من خلال علاقاته بمحيطه ووجوده.

التاريخ بثوب الحاضر


في روايته الرائعة "لا أحد ينام في الإسكندرية" يستعيد إبراهيم عبد المجيد صورة التاريخ بينما تنظر عينه على الحاضر, يتساءل وهو ينظر شوارع الإسكندرية: "هل كان الاسكندر يعلم أنه لا يقيم مدينة تحمل اسمه خالدا في الزمان, وإنما يقيم عالما بأسره وتاريخا كاملا؟ أغلب الظن أنه كان يعرف. هو لم يكن معنيا بالخلود فقط, وإنما بتغيير الدنيا".
فالآخر يترك لنا الأثر لنستدل عليه, فالأثر هو تاريخ صاحبه, والأثر هو ما يتبقى منا بعد أن نصبح فتات أجساد, والأثر هو ذلك الذي نقف على أطلاله أو على حضوره فينا فنسارع بالأسئلة التي تقودنا شيئا فشيئا إلى تاريخه.
هكذا يتساءل إبراهيم عبد المجيد وهو يقلب دفاتر الماضي: " لقد كان بطليموس الأول, وخلفه الثاني, هما اللذان أنجزا بناء الإسكندرية. وضع الاسكندر حجر أساس المدينة وأوكل مهمة تخطيطها إلى دينوكراتيس البارع في الهندسة, فخططها مثل رقعة الشطرنج. شوارع مستقيمة من الشمال إلى الجنوب, تقطعها شوارع مستقيمة من الشرق إلى الغرب. لماذا حقا جعلها مثل رقعة الشطرنج؟ هل كان يقصد أن تكون مسرحا للعب والموت؟"
الأثر يثير بنا رغبة التذكر ومساءلة الماضي, هكذا تصبح المتاحف دوامة أسئلة تحاول استدراج الماضي بشخوصه وحوادثه لترسم صورة له, ولو كانت صورة غائمة لكنها في النهاية محاولة لنسج شريط سينمائي في الرأس, سيظل يستعيد نفسه مرات ومرات.
وهكذا أيضا تصبح الشوارع بتقاطعاتها ونتوءاتها جزءا من ذاكراتنا التي تتساءل دائما عن ماضيها, فنحن حينما نبحث عن ماضي الأشياء, إنما نكون في حالة بحث عن ماضينا نحن, وعن طفولاتنا داخل هذه الأمكنة.

في الكتابة يصبح الكاتب نفسه رهينة الأثر, فهو نفسه رهينة عند الماضي, يحاول استجلاب صوره ورسمها من جديد, كما أنه رهينة عند الحاضر, فهو يسعى من خلال كتابته إلى تثبيت أثره ليراه من يأتي من بعده.
تصبح لعبة الأثر هي لعبة الحياة نفسها, فالأثر هو نحن في غيابنا, هو نفسه الموسيقى التي ترسلها أجسادنا من بعيد حينما نكون في حالة غياب, كما أنه يشبه الأسماء التي تصفنا ونُعرف من خلالها, بل أنه هو نفسه اسمنا الذي سنفخر به.
يقول الروائي الياباني ياسوناري كواباتا على لسان كيكوجي أحد أبطال روايته "سرب طيور بيضاء": "هذان الكوبان, حين يستغرق النظر في تأملهما يصبح المرء عاجزا تماماً عن تذكر الاخطاء أو الخطايا التي ربما ارتكبها من كان يمتلكهما في السابق. فالزمن الذي عاشه والدي ليس أكبر من حدث تافه وبسيط في حساب الزمن المذهل والمديد الذي شهدته هذه التحف.. هذان الكوبان...".
هكذا تصبح الأمكنة والأشياء مادة لاشتعال الخيال وإعادة الرسم وتأليف الصور, فالذكريات ليست هي ذكرياتنا الشخصية فقط, إنما هي أيضا آثارنا التي نتركها خلفنا لتدل علينا.
تحضر هذه الأشياء والأمكنة إلينا في أطارها الجديد, تبدو أكثر بهاء وأجمل فقد تخلصت من عيوب ماضيها وصارت جزءا من حاضرنا. أو كما تقول ايزابيل الليندي في روايتها "صورة عتيقة": "الذاكرة تطبع الأمور بالأبيـض والأسـود, أما الذكريات الرمـادية فتضـيع في الطريق".

طفولة المكان


لينا الطيبي



"أصوات خفية حبيبة, أصوات أولئك الذين ماتوا, أو أولئك الذين بالنسبة الينا ضائعون مثل الموتى, تتكلم في أحلامنا أحيانا, وأحيانا في الفكر يسمعها العقل, ومع أصدائها تعود برهة أصوات من قصائد حياتنا الأولى, مثل موسيقى بعيدة في الليل تخبو"

كفافيس


يتعايش الانسان في داخله مع مجموعة كبيرة من الحيوات بين ماض وحاضر ومستقبل آتٍ, وتتعايش هذه الحيوات في داخلنا كأسئلة متكررة عن الوجود والعدم لتنفتح هذه الأسئلة على كل ما يمس ويلامس حيواتنا, فسؤال الوجود هو السؤال الأكثر حضورا في أفكارنا ومنه نستمد حالة تفكير لا متناه, ومنه أيضا نستمد القدرة على الخيال والتذكر واسترجاع التفاصيل الصغيرة العابرة.
يدخل أحدنا الى متحف ويتنقل بين معروضاته, في لحظة كهذه قد يتبادر الى الذهن سؤال: من كان هنا من قبل؟ أي يد صنعت هذا التمثال؟ أي كف لامسته؟ ومن ترى هو الذي نظر بعينيه الى هذه القطعة؟ وكم من عين شاهدتها؟ وكم من ماض وتاريخ؟ ستتبادر الى الذهن أيضا أسئلة لها علاقة بعلاقاتنا نحن مع هذه الكائنات التي مضت, هل نستطيع أن نتعرف الى أشكالها؟ هل تشبهنا؟ هل كانت لطيفة؟ هل عايشت قصصا صعبة, أم أنها كانت سعيدة؟ والى أي حد بوسعنا أن نتراسل معها؟
هذه الأسئلة تنفتح على تواريخ كثيرة, وأمكنة تنتشر في كل مكان, كما تنفتح على خيال واسع يحاول أن يستجوب الماضي.
أسئلة ستظل من دون اجابات فعلية, لكنها ستحمل قدرة كبيرة على التوالد فاتحة ذاكرة ضخمة على كل عابر مضى.
من يا ترى هو ذلك الذي استند بكف يده كاملة قبل مئة سنة على الجدار الذي نلامسه؟ أين هو ذلك الانسان اليوم؟ 
نسمع أصوات الماضي, وكما يقول كفافيس الشاعر اليوناني الذي عاش في الاسكندرية "أصوات خفية حبيبة (...) مثل موسيقى بعيدة في الليل تخبو" لكن هذه الأصوات ستظل تحمل صوت الموسيقى مثيرة فينا الحنين الى ماض نجهله بشكل كامل, لكنه الماضي الذي يثير فينا رعشة التذكر, ويفتح خيالنا للابحار فيه.
كل هذه المشاعر سترتبط بالمكان, فهو صاحب الأثر, وصاحب اللمسة والتاريخ, فالتاريخ بلا جغرافيا محددة سيصبح محض خيال ليس بامكان ذاكراتنا أن تنسج صورته.
ولهذا ربما يرتبط الإنسان منا بالماضي عبر أمكنة طفولته, فالبيت الأول يشكل الحنين المطلق, إذ أنه البيت الذي رأته أعيننا أولا, فهو المكان الذي لا تستطيع الذاكرة مهما ثقلت أحمالها أن تتخلص منه.