الأحد، 28 نوفمبر 2010

فسحة أشغلها


قال جبران: "وعظتني نفسي فعلمتني ألا أحدّ المكان بقولي: هنا وهناك وهنالك.. وقبل أن تعظني نفسي كنتُ إذا ما صرتُ في موضع من الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقط علمتُ أن مكاناً أحلّ فيه هو كل مكان.. وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات".
دائما أقول أنني كائن لا علاقة له بالجغرافيا، كائن يحنّ دائما في زحام الكون كله إلى غرفة صغيرة تحتضن أحلامه وتؤججها.
تتغيّر المدن مرارا، تجتاز محن شوارعها وتعيد تصنيف ذاكراتها، لكن الغرفة الصغيرة المشبعة بالأنفاس تبقى كما هي نقطة في كون عظيم لكنها تشكل فضاء وكونا لامعا بآلاف المسافات.
الغرفة الصغيرة التي تخلق مراياها حتى وان لم تكن موجودة على جدرانها أصلا، تعيد ترتيب الروح في حيزها وتطلقها في فضائها، الغرفة التي بلا شرفة أو بشرفة التي ربما بلا نوافذ لكنها تنفتح على سماء الكون في رعشة طائر، الغرفة التي تبني وفق مشيئتها أبراجا تناطح السماء وتغتسل بمطره، هي الغرفة نفسها التي يكللها سقف وبالرغم من هذا تشرع نفسها إلى الهواء بلا مظلات، وتجوب الأفق من دون أن تلامس جدرانه.
الغرفة.. الفسحة التي أشغلها وتعيد الإشتغال بي، تطمئن الى حركتي في أرجائها وأطمئن إلى ما تتركه في روحي من دهاليز ومرايا لأجوبها، تصبح في دفقة واحدة خريطة كونية تؤجج العالم كله وتتسع.
هي المكان الذي يتسع بجمالياته، وبأرواح من فيه، تستطيع أن تحتوي العالم مثلما تبيح له أن يحتويها، تعيد إبتكار الحكايا وقراءة القصائد، تلتمع الشمس في أفقها ويسدل القمر أسراره.
هي المكان الذي يحتفي بنفسه ويؤسس حضوره ويلتقط الحواس ليلامسها ويعطيها، هي الغرفة نفسها التي شغلها جبران بأصابعه، وشغلتها أرواح كثيرة، أرواح تملي أسرارها وتمنحها لخفقة حانية من جدار يطمئن إليها.
يمكن لحيّز صغير يشغله حالم كبير أن يصبح كونا مشرعا لأحلام العالم كله، وبوسعه أن يصبح جغرافيا كاملة تسطع بمعارفها الخاصة، تلك المعارف التي ترتقي لا المعارف التي تريد أن تهيّمن وتقتل.
يبدأ الكون من نقطة متناهية الصغر، كما تبدأ الحياة من نطفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق