الأحد، 28 نوفمبر 2010

التاريخ بثوب الحاضر


في روايته الرائعة "لا أحد ينام في الإسكندرية" يستعيد إبراهيم عبد المجيد صورة التاريخ بينما تنظر عينه على الحاضر, يتساءل وهو ينظر شوارع الإسكندرية: "هل كان الاسكندر يعلم أنه لا يقيم مدينة تحمل اسمه خالدا في الزمان, وإنما يقيم عالما بأسره وتاريخا كاملا؟ أغلب الظن أنه كان يعرف. هو لم يكن معنيا بالخلود فقط, وإنما بتغيير الدنيا".
فالآخر يترك لنا الأثر لنستدل عليه, فالأثر هو تاريخ صاحبه, والأثر هو ما يتبقى منا بعد أن نصبح فتات أجساد, والأثر هو ذلك الذي نقف على أطلاله أو على حضوره فينا فنسارع بالأسئلة التي تقودنا شيئا فشيئا إلى تاريخه.
هكذا يتساءل إبراهيم عبد المجيد وهو يقلب دفاتر الماضي: " لقد كان بطليموس الأول, وخلفه الثاني, هما اللذان أنجزا بناء الإسكندرية. وضع الاسكندر حجر أساس المدينة وأوكل مهمة تخطيطها إلى دينوكراتيس البارع في الهندسة, فخططها مثل رقعة الشطرنج. شوارع مستقيمة من الشمال إلى الجنوب, تقطعها شوارع مستقيمة من الشرق إلى الغرب. لماذا حقا جعلها مثل رقعة الشطرنج؟ هل كان يقصد أن تكون مسرحا للعب والموت؟"
الأثر يثير بنا رغبة التذكر ومساءلة الماضي, هكذا تصبح المتاحف دوامة أسئلة تحاول استدراج الماضي بشخوصه وحوادثه لترسم صورة له, ولو كانت صورة غائمة لكنها في النهاية محاولة لنسج شريط سينمائي في الرأس, سيظل يستعيد نفسه مرات ومرات.
وهكذا أيضا تصبح الشوارع بتقاطعاتها ونتوءاتها جزءا من ذاكراتنا التي تتساءل دائما عن ماضيها, فنحن حينما نبحث عن ماضي الأشياء, إنما نكون في حالة بحث عن ماضينا نحن, وعن طفولاتنا داخل هذه الأمكنة.

في الكتابة يصبح الكاتب نفسه رهينة الأثر, فهو نفسه رهينة عند الماضي, يحاول استجلاب صوره ورسمها من جديد, كما أنه رهينة عند الحاضر, فهو يسعى من خلال كتابته إلى تثبيت أثره ليراه من يأتي من بعده.
تصبح لعبة الأثر هي لعبة الحياة نفسها, فالأثر هو نحن في غيابنا, هو نفسه الموسيقى التي ترسلها أجسادنا من بعيد حينما نكون في حالة غياب, كما أنه يشبه الأسماء التي تصفنا ونُعرف من خلالها, بل أنه هو نفسه اسمنا الذي سنفخر به.
يقول الروائي الياباني ياسوناري كواباتا على لسان كيكوجي أحد أبطال روايته "سرب طيور بيضاء": "هذان الكوبان, حين يستغرق النظر في تأملهما يصبح المرء عاجزا تماماً عن تذكر الاخطاء أو الخطايا التي ربما ارتكبها من كان يمتلكهما في السابق. فالزمن الذي عاشه والدي ليس أكبر من حدث تافه وبسيط في حساب الزمن المذهل والمديد الذي شهدته هذه التحف.. هذان الكوبان...".
هكذا تصبح الأمكنة والأشياء مادة لاشتعال الخيال وإعادة الرسم وتأليف الصور, فالذكريات ليست هي ذكرياتنا الشخصية فقط, إنما هي أيضا آثارنا التي نتركها خلفنا لتدل علينا.
تحضر هذه الأشياء والأمكنة إلينا في أطارها الجديد, تبدو أكثر بهاء وأجمل فقد تخلصت من عيوب ماضيها وصارت جزءا من حاضرنا. أو كما تقول ايزابيل الليندي في روايتها "صورة عتيقة": "الذاكرة تطبع الأمور بالأبيـض والأسـود, أما الذكريات الرمـادية فتضـيع في الطريق".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق