الأحد، 28 نوفمبر 2010

طفولة المكان


لينا الطيبي



"أصوات خفية حبيبة, أصوات أولئك الذين ماتوا, أو أولئك الذين بالنسبة الينا ضائعون مثل الموتى, تتكلم في أحلامنا أحيانا, وأحيانا في الفكر يسمعها العقل, ومع أصدائها تعود برهة أصوات من قصائد حياتنا الأولى, مثل موسيقى بعيدة في الليل تخبو"

كفافيس


يتعايش الانسان في داخله مع مجموعة كبيرة من الحيوات بين ماض وحاضر ومستقبل آتٍ, وتتعايش هذه الحيوات في داخلنا كأسئلة متكررة عن الوجود والعدم لتنفتح هذه الأسئلة على كل ما يمس ويلامس حيواتنا, فسؤال الوجود هو السؤال الأكثر حضورا في أفكارنا ومنه نستمد حالة تفكير لا متناه, ومنه أيضا نستمد القدرة على الخيال والتذكر واسترجاع التفاصيل الصغيرة العابرة.
يدخل أحدنا الى متحف ويتنقل بين معروضاته, في لحظة كهذه قد يتبادر الى الذهن سؤال: من كان هنا من قبل؟ أي يد صنعت هذا التمثال؟ أي كف لامسته؟ ومن ترى هو الذي نظر بعينيه الى هذه القطعة؟ وكم من عين شاهدتها؟ وكم من ماض وتاريخ؟ ستتبادر الى الذهن أيضا أسئلة لها علاقة بعلاقاتنا نحن مع هذه الكائنات التي مضت, هل نستطيع أن نتعرف الى أشكالها؟ هل تشبهنا؟ هل كانت لطيفة؟ هل عايشت قصصا صعبة, أم أنها كانت سعيدة؟ والى أي حد بوسعنا أن نتراسل معها؟
هذه الأسئلة تنفتح على تواريخ كثيرة, وأمكنة تنتشر في كل مكان, كما تنفتح على خيال واسع يحاول أن يستجوب الماضي.
أسئلة ستظل من دون اجابات فعلية, لكنها ستحمل قدرة كبيرة على التوالد فاتحة ذاكرة ضخمة على كل عابر مضى.
من يا ترى هو ذلك الذي استند بكف يده كاملة قبل مئة سنة على الجدار الذي نلامسه؟ أين هو ذلك الانسان اليوم؟ 
نسمع أصوات الماضي, وكما يقول كفافيس الشاعر اليوناني الذي عاش في الاسكندرية "أصوات خفية حبيبة (...) مثل موسيقى بعيدة في الليل تخبو" لكن هذه الأصوات ستظل تحمل صوت الموسيقى مثيرة فينا الحنين الى ماض نجهله بشكل كامل, لكنه الماضي الذي يثير فينا رعشة التذكر, ويفتح خيالنا للابحار فيه.
كل هذه المشاعر سترتبط بالمكان, فهو صاحب الأثر, وصاحب اللمسة والتاريخ, فالتاريخ بلا جغرافيا محددة سيصبح محض خيال ليس بامكان ذاكراتنا أن تنسج صورته.
ولهذا ربما يرتبط الإنسان منا بالماضي عبر أمكنة طفولته, فالبيت الأول يشكل الحنين المطلق, إذ أنه البيت الذي رأته أعيننا أولا, فهو المكان الذي لا تستطيع الذاكرة مهما ثقلت أحمالها أن تتخلص منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق